لا أكاد أسمع لأحد كبار العلماء والباحثين يتحدث في مجاله إلا ويتبادر في
ذهني هذا السؤال، لماذا يبدون متواضعين وحذرين جداً
في أحكامهم مع أن قدر المعرفة لديهم أكبر بكثير من غالبية الناس؟ وبالمقابل تجد كثيرا من المُتعالمين والأدعياء يتحدثون في ذات المواضيع بثقة تامة ومطلقة ويطلقون أحكامهم بكل تأكيد وحزم؟ دار هذا السؤال في بالي كثيراً وهو في حقيقته ليس أكثر من سؤال الفرق بين العالِم الحقيقي والمُتعالم (أو الجاهل).
يميل الفرد إلى الإيمان الزائد بقدراته ومعرفته في كثير من الشؤون الحياتية والاجتماعية. هذا التقدير المُبالغ فيه لمعرفته يتضمن مسألتين: يتوصل هذا الفرد دائماً إلى استنتاجات خاطئة أو يتبنى خيارات مغلوطة، وأكثر بلاءً من ذلك أن جهلهم هذا يعيقهم عن تقدير ضعف معرفتهم، (أو عن معرفة جهلهم الشديد). جرب أن تسأل أحد المهتمين بشكل بسيط في أي مجال وليكن في العلوم، ستجد أنه يجيبك عن سؤالك ولكنه في ذات الوقت غير قادر على تقدير سطحية جوابه وسخافته. وإذا كان هذا الأمر في العلوم والتي قد يبذل فيها الفرد بعض الاهتمام، فماذا يمكن أن يقال عن الشؤون السياسية والحياتية؟ هذا الفرد ليس فلان هناك البعيد، بل كلنا هذا الفرد. كلنا -وبمجرد اهتمامنا بمجال معين- لا نحب أن نظهر فيه بمظهر الجاهل الذي لا يعرف شيئاً رغم أنك تجد في هذا المجال من أفنوا أعمارهم وأوقاتهم لفهمه والتعمق والاحتراف فيه.
المفارقة المضحكة في الموضوع هي أن أحد أهم وأوضح معالم قلة الكفاءة هو الجهل بقلة الكفاءة، الجهل بحجم الجهل. وحتى يكون حديثي أكثر وضوحاً فسأسرد تجربة عملية أجراها كل من جستن كروجر وديفين ديننج من جامعة كورنيل الأمريكية نشروها لاحقاً في ورقة عنوانها «لا يملكون المهارة ولا يدركون ذلك: كيف تقود صعوبة إدراك عدم كفاءة الفرد إلى تقييم متضخم لذاته». حيث تبدأ الورقة بالحديث عن أن ذات المعرفة أو المهارات التي نحتاجها لإطلاق أحكام صحيحة أو أداء الحرف بطريقة صحيحة هي ذات المهارات التي نستعين بها على تقييم المخرجات. وهذا قد يبدو حديثاً بديهيا. لكن غير البديهي هو كيف أن الأفراد حتى على الرغم من افتقادهم للمعرفة الكافية لإطلاق الأحكام الصحيحة في مجال ما قادرون على الحديث بثقة عالية في ذات المجال. ففي إحدى الاختبارات (عن الاستنتاج المنطقي) في هذه الورقة، تجد أن متوسط تقييم الأفراد لأدائهم في الاختبار كان ٦٦٪. أي أن الكل يعتقد أنه يملك من المعرفة في الاستنتاج المنطقي أفضل بقليل من المتوسط (والذي سيكون خمسين بالمئة). لكن العجيب أن أسوأ العينة أداءً كانوا الأكثر ثقة في معرفتهم بالاستنتاج المنطقي (حيث قيّموا قدراتهم أفضل من %68 من الآخرين) وتوقعوا أن درجاتهم في الاختبار لن تقل عن %62 من أفراد العينة الآخرين في نفس الوقت الذي كانوا فيه أسوأ العينة أداء. في نفس الوقت نجد أن أفضل العينة أداءً والذين أحرزوا درجات أفضل من %90 من أفراد العينة قيّموا قدراتهم بشكل أقل من مستواهم الفعلي. هذه تجربة واحدة من أصل ٤ اختبارات متتابعة في مجالات مختلفة يذهلك فيها تكرار هذا النمط من الفجوة بين الاعتقاد والأداء الفعلي.
ما هو السبيل إذن حتى نهرب من هذا الفخ الصعب؟ أن نتحدث فيما نعرف فقط؟ ليس كذلك فهذا لن يفيد لأننا سنعتقد أننا نعرف ما يكفي دوماً. تستعرض ذات الدراسة أنهم أقاموا دورة تدريبية قصيرة في إحدى المهام لتعرفهم على أبرز المهارات والطرق، وحين اختبروا مرة أخرى تجد أنهم أصبحوا الآن أكثر تواضعاً فقد انخفضت توقعاتهم عن أدائهم بشكل كبير لأنهم يعرفون الآن حجم ما يجهلونه. وهذا بالضبط هو العلاج الناجع للجهل والذي ورثناه من حكمة الأولين: المزيد من التعلم من الأخطاء والاستعداد للتصحيح. ليس لغرض العلم ذاته بقدر ماهو لغرض العلم بمقدار ما نجهله..
ولعلنا نتحدث قليلاً عن كيفية التعامل مع المُتعالم الذي يدعي أنه يعلم وأنت تدرك تماماً أنه لا يعلم. يفضل البعض أسلوب تفجير الفقاعة مباشرة في وجه المُتعالم. لكن هذا الأسلوب قد لا يبدو ناجعاً خصوصاً لو كان هذا المتعالم صاحب لسان واستطاع بشكل ما أن يكسب الموقف ويعزز التصور المغلوط عنه عند الآخرين. كما أننا كنا يوماً ما في موقف هذا المتعالم حيث دافعنا عن فكرة أو رأي لم نتحقق منه جيداً ودخلنا في نقاش حوله ونحن لا نفقه فيه ما يكفي. ويفضل آخرون أسلوباً أراه أكثر نجاعة، وهو في مسايرة المتعالم والانطلاق معه ثم توضيح ما يجهله خطوة خطوة حتى تكسبه في صفك. ولا شك أن هذا الأسلوب ناجع لأن المُتعالم لن يحتمل التمسك بموقفه حينما يرى من هو أعلم منه يريه مقدار جهله.
برتراند راسل تحدث مرة عن العواقب الوخيمة لعجز العارفين وتشككهم وجلد الساذجين وجرأتهم، حيث قال «الوحيدون الذين تبقى لديهم آراء إيجابية هم هؤلاء الأغبياء جداً الذين لا يعرفون متى تكون آراؤهم سخيفة.
وبالتالي فالحمقى يحكمون العالم». فلا عجب أن يتجاهل قادة العالم المشكلات التي تحيق بمستقبل البشرية كالتلوث البيئي أو أن يعجزوا عن حل الكوارث السياسية، فالحمقى هم الأقدر على القرار والتنفيذ ولذلك حكموا العالم.
في أحكامهم مع أن قدر المعرفة لديهم أكبر بكثير من غالبية الناس؟ وبالمقابل تجد كثيرا من المُتعالمين والأدعياء يتحدثون في ذات المواضيع بثقة تامة ومطلقة ويطلقون أحكامهم بكل تأكيد وحزم؟ دار هذا السؤال في بالي كثيراً وهو في حقيقته ليس أكثر من سؤال الفرق بين العالِم الحقيقي والمُتعالم (أو الجاهل).
يميل الفرد إلى الإيمان الزائد بقدراته ومعرفته في كثير من الشؤون الحياتية والاجتماعية. هذا التقدير المُبالغ فيه لمعرفته يتضمن مسألتين: يتوصل هذا الفرد دائماً إلى استنتاجات خاطئة أو يتبنى خيارات مغلوطة، وأكثر بلاءً من ذلك أن جهلهم هذا يعيقهم عن تقدير ضعف معرفتهم، (أو عن معرفة جهلهم الشديد). جرب أن تسأل أحد المهتمين بشكل بسيط في أي مجال وليكن في العلوم، ستجد أنه يجيبك عن سؤالك ولكنه في ذات الوقت غير قادر على تقدير سطحية جوابه وسخافته. وإذا كان هذا الأمر في العلوم والتي قد يبذل فيها الفرد بعض الاهتمام، فماذا يمكن أن يقال عن الشؤون السياسية والحياتية؟ هذا الفرد ليس فلان هناك البعيد، بل كلنا هذا الفرد. كلنا -وبمجرد اهتمامنا بمجال معين- لا نحب أن نظهر فيه بمظهر الجاهل الذي لا يعرف شيئاً رغم أنك تجد في هذا المجال من أفنوا أعمارهم وأوقاتهم لفهمه والتعمق والاحتراف فيه.
المفارقة المضحكة في الموضوع هي أن أحد أهم وأوضح معالم قلة الكفاءة هو الجهل بقلة الكفاءة، الجهل بحجم الجهل. وحتى يكون حديثي أكثر وضوحاً فسأسرد تجربة عملية أجراها كل من جستن كروجر وديفين ديننج من جامعة كورنيل الأمريكية نشروها لاحقاً في ورقة عنوانها «لا يملكون المهارة ولا يدركون ذلك: كيف تقود صعوبة إدراك عدم كفاءة الفرد إلى تقييم متضخم لذاته». حيث تبدأ الورقة بالحديث عن أن ذات المعرفة أو المهارات التي نحتاجها لإطلاق أحكام صحيحة أو أداء الحرف بطريقة صحيحة هي ذات المهارات التي نستعين بها على تقييم المخرجات. وهذا قد يبدو حديثاً بديهيا. لكن غير البديهي هو كيف أن الأفراد حتى على الرغم من افتقادهم للمعرفة الكافية لإطلاق الأحكام الصحيحة في مجال ما قادرون على الحديث بثقة عالية في ذات المجال. ففي إحدى الاختبارات (عن الاستنتاج المنطقي) في هذه الورقة، تجد أن متوسط تقييم الأفراد لأدائهم في الاختبار كان ٦٦٪. أي أن الكل يعتقد أنه يملك من المعرفة في الاستنتاج المنطقي أفضل بقليل من المتوسط (والذي سيكون خمسين بالمئة). لكن العجيب أن أسوأ العينة أداءً كانوا الأكثر ثقة في معرفتهم بالاستنتاج المنطقي (حيث قيّموا قدراتهم أفضل من %68 من الآخرين) وتوقعوا أن درجاتهم في الاختبار لن تقل عن %62 من أفراد العينة الآخرين في نفس الوقت الذي كانوا فيه أسوأ العينة أداء. في نفس الوقت نجد أن أفضل العينة أداءً والذين أحرزوا درجات أفضل من %90 من أفراد العينة قيّموا قدراتهم بشكل أقل من مستواهم الفعلي. هذه تجربة واحدة من أصل ٤ اختبارات متتابعة في مجالات مختلفة يذهلك فيها تكرار هذا النمط من الفجوة بين الاعتقاد والأداء الفعلي.
ما هو السبيل إذن حتى نهرب من هذا الفخ الصعب؟ أن نتحدث فيما نعرف فقط؟ ليس كذلك فهذا لن يفيد لأننا سنعتقد أننا نعرف ما يكفي دوماً. تستعرض ذات الدراسة أنهم أقاموا دورة تدريبية قصيرة في إحدى المهام لتعرفهم على أبرز المهارات والطرق، وحين اختبروا مرة أخرى تجد أنهم أصبحوا الآن أكثر تواضعاً فقد انخفضت توقعاتهم عن أدائهم بشكل كبير لأنهم يعرفون الآن حجم ما يجهلونه. وهذا بالضبط هو العلاج الناجع للجهل والذي ورثناه من حكمة الأولين: المزيد من التعلم من الأخطاء والاستعداد للتصحيح. ليس لغرض العلم ذاته بقدر ماهو لغرض العلم بمقدار ما نجهله..
ولعلنا نتحدث قليلاً عن كيفية التعامل مع المُتعالم الذي يدعي أنه يعلم وأنت تدرك تماماً أنه لا يعلم. يفضل البعض أسلوب تفجير الفقاعة مباشرة في وجه المُتعالم. لكن هذا الأسلوب قد لا يبدو ناجعاً خصوصاً لو كان هذا المتعالم صاحب لسان واستطاع بشكل ما أن يكسب الموقف ويعزز التصور المغلوط عنه عند الآخرين. كما أننا كنا يوماً ما في موقف هذا المتعالم حيث دافعنا عن فكرة أو رأي لم نتحقق منه جيداً ودخلنا في نقاش حوله ونحن لا نفقه فيه ما يكفي. ويفضل آخرون أسلوباً أراه أكثر نجاعة، وهو في مسايرة المتعالم والانطلاق معه ثم توضيح ما يجهله خطوة خطوة حتى تكسبه في صفك. ولا شك أن هذا الأسلوب ناجع لأن المُتعالم لن يحتمل التمسك بموقفه حينما يرى من هو أعلم منه يريه مقدار جهله.
برتراند راسل تحدث مرة عن العواقب الوخيمة لعجز العارفين وتشككهم وجلد الساذجين وجرأتهم، حيث قال «الوحيدون الذين تبقى لديهم آراء إيجابية هم هؤلاء الأغبياء جداً الذين لا يعرفون متى تكون آراؤهم سخيفة.
وبالتالي فالحمقى يحكمون العالم». فلا عجب أن يتجاهل قادة العالم المشكلات التي تحيق بمستقبل البشرية كالتلوث البيئي أو أن يعجزوا عن حل الكوارث السياسية، فالحمقى هم الأقدر على القرار والتنفيذ ولذلك حكموا العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.